تأملات كيميائية 6
تعلمت في دراستي وممارستي للكيمياء أنه لا يمكن البدء من الصفر في أي عمل، وأن من المنطق أن أبني على أعمال غيري ممن سبقني للعمل في نفس المجال، وأن لا أعيد عملهم إلا قصداً إذا كان هناك نفع من ذلك.
هناك كثيرون عملوا قبلي أو يعملون في المجال الذي أردت العمل فيه بمختلف فروعه وأشكاله، وقد تركوا الكثير من آثار أعمالهم في نشرات ومقالات ومحاضرات وكتب علمية لها أول وليس لها آخر. كما نتج عن أعمالهم ومشاريعهم وجود الكثير من المواد والأدوات لكل مجال وعمل متاحة تجارياً للعموم، أو متوفرة بشكل خاص في مراكز معينة، أو يتوفر وصف دقيق لطريقة تصنيعها وخواصها بما يساعد في حصول من يحتاجها عليها، أو في استخدامها لتحقيق تفاعل كيميائي معين بأقل جهد وزمن ممكن.
تعلمت أن لا أقوم بأي عمل جديد في مجال الكيمياء (اصطناع ودراسة مركب جديد، أو تطبيق طريقة تفاعل ما على نوع جديد من المركبات، أو الكشف عن طريقة تفاعلية جديدة في مجال معين، أو تطبيق طريقة تحليل معينة على مادة جديدة أو منتج أو دواء جديد، أو تأليف كتاب، أو تحضير نص أو منشور علمي أو محاضرة علمية، أو حتى تحضير محاضرة تدريسية بشكل مميز) إلا بناءً على ما عمله غيري من قبل. ليس اعترافاً بفضلهم فقط، وإنما أيضاً لكي لا أهدر وقتي في عمل ما عمله غيري سابقاً، والانصراف إلى عمل ما هو جديد حقاً.
أعرف أن معلوماتي كانت وما تزال لا أكثر من دائرة صغيرة للغاية، إن لم تكن نقطة، في بحر علم الكيمياء الواسع، وهذا طبيعي ولا يجب أن أخجل من قوله. ولمعرفتي أنه لا يمكن حفظ معلومات كثيرة في الذاكرة إلى الأبد، فقد تعلمت كيفية البحث عن المعلومات التي قد أحتاج للحصول عليها أو أهتم بها، وبذلت من أجل ذلك جهوداً مضنية ولا أزال، فأنا أعتبر أن معرفة كيفية الحصول على المعلومة المطلوبة أساس العلم في كل مجال. وفي كل محاولة لإضافة جديد ما في الكيمياء وفروعها، كنت أبدأ بمعرفة ماذا فعل الآخرون في نفس المجال أو حوله، وما هي المعلومات التي نشرت فيه باللغة العربية، أو اللغتين الانكليزية والفرنسية اللتين أجيدهما، أو باللغات الأخرى عن طريق ملخصات مترجمة لإحدى اللغتين السابقتين. وتلخيص أهم المعلومات في ذهني أو على الورق أو على الحاسوب، ومن ثم الأفكار التي ستعينني على العمل الجديد المستهدف.
هذا هو البحث العلمي في الكيمياء. وأحسب أنه يتم بنفس الطريقة في كل العلوم والمعارف الجديدة التقنية أو العملية منها أو النظرية، مع اختلاف المعلومات والأدوات والمصادر في كل علم عن غيره.
أريد القول أن الإنسان لا يكون في وضع طبيعي وهو يتجاهل جهد الآخرين السابقين أو المعاصرين له. وقد يضيع ولا يصل إلى نتائج ذات قيمة إن هو عمل بمعزل عن ذلك، وقد يكرر عمل غيره وهو يظن أنه يكتشف شيئاً جديداً.
كما أريد القول أن المعرفة الحقيقية في عالمنا المعاصر هي معرفة كيفية البحث عن المعلومات التي يمكن أن تحصل حاجة إليها، لا حفظها. وأن اللغات الأجنبية أداة أساسية في البحث، خاصة في المجالات التقنية والعلمية.
وقد مر عليّ في الفترة التي كنت أقوم فيها بالأبحاث العلمية في مجال الكيمياء والدواء، عدة حالات لأشخاص فوجئوا بعد جهد جهيد في أحد المجالات العلمية استمر لشهور أو سنوات للحصول على شهادة الماجستير أو الدكتوراه أو لنشر بحث علمي، أن عملهم كله أو بعضه قد تم إجراؤه من قبل أشخاص آخرين سبقوه بنشر أعمالهم، وبهذا لم يعد لعملهم أية قيمة علمية. وقد حصل مرة معي شخصياً أنني رأيت جزءاً من بحث كنت قد انتهيت منه قد نشر حديثاً من قبل آخرين. وقد اضطررت ببساطة أن ألغي هذا الجزء من قائمة أعمالي البحثية وحذفته من أطروحة الدكتوراه التي كنت أعدها آنذاك، لكونه لم يعد جديداً بالنسبة للقراء. والحمد لله أن هذا الجزء كان فرعياً ولم يكن كبيراً بحيث يؤثر على محتوى الأطروحة. ولكنني بقيت كل عمري مغتاظاً من إضاعة شهرين في هذا الفرع من العمل، ظاناً أنني الوحيد الذي طرق هذا الباب.
عسى الله أن يفرّج عن هذه الأمة، ويجعلها تنصرف إلى ما هو مفيد لها حقاً في دنياها وآخرتها.
د. ممدوح النيربيه
إقرأ المقال الأول في هذه المجموعة: تعلمت من الكيمياء (1)