تأملات كيميائية 7
في التفاعلات الكيميائية كما في صناعة الأدوية، هناك معايير لجودة المواد الأولية المستخدمة فيها ترتبط عادة بمجال استخدامها. كما أن هناك معايير لنجاح التفاعل الكيميائي أو طريقة الاصطناع لمادة جديدة أو قديمة، ومعايير لجودة المنتجات النهائية الكيميائية أو الدوائية التي يحصل عليها، يجب التحقق منها قبل طرحها للتداول أو الاستخدام.
ولعل أكثرنا يعلم أن هناك مثلاً نشاء صناعي، ونشاء غذائي، ونشاء دوائي. كما أن هناك نشاء ذرة، ونشاء قمح، ونشاء أرز، وأنواع أخرى من النشاء بحسب مصدرها الغذائي.وهناك معايير جودة لكل منها، فلا يصلح استخدام النشاء الصناعي في صنع الأغذية، ولا استخدام النشاء الغذائي في صنع الأدوية ما لم يحقق جميع مواصفات النشاء الدوائي في مجال الاستخدام المطلوب. كما أنه لا يجوز استخدام نشاء القمح مكان نشاء الذرة مثلاً بشكل عام. وينطبق الأمر على مواد عديدة أخرى غير النشاء.
كما يعلم أكثرنا أن هناك نسب أو تركيزات لبعض المواد المستخدمة في المجالات المختلفة. فلا يمكنني أن أسمي خلاً مثلاً محلولاً نسبة حمض الخل فيه أكثر من 5% أو أقل من ذلك بكثير. كما أننا نستخدم حمض الكبريت بتركيز عال في صنع البطاريات السائلة، لكن هذا الحمض لا يناسب الاستخدام المنزلي الذي يتطلب تركيزات منخفضة، ولا الاستخدام المخبري الذي يتطلب نقاوة عالية وتركيزات أعلى أحياناً، أو تركيزات محددة بدقة أدنى من ذلك بكثير، وتحضر وتعاير في المختبر نفسه عادة.
الكحول المستخدم في المختبرات الكيميائية والدوائية وفي صناعة الأدوية هو أيضاً أنواع ولكن من ناحية نقاوته ومحتواه من الماء. لكن جميع أنواعه تتطلب التوافق مع فحوص عديدة صارمة، بعضها يتطلب تجهيزات حديثة نوعاً ما، كمطياف الأشعة فوق البنفسجية Ultraviolet (UV) Spectrophotometer وجهاز الكروماتوغرافيا الغازية Gas Chromatograph. وغالباً ما يكون هناك إهمال لهذه الفحوص أو لبعضها في الكثير من مصانع الأدوية، مما قد يعرض المستهلكين لأخطار صحية غير محسوبة.
وأذكر أنني كلفت يوماً بفحص عينات من كحول أو إيتانول، تم توريده لأحد المصانع الدوائية من مصدر محلي معروف بجودته، يراد استخدامه في صناعة حقن دوائية، وهي من أكثر أنواع الأدوية حساسية لشوائب المواد الأولية. وقد دهشت وأنا أرى أن طيف الأشعة فوق البنفسجية UV Spectrum يظهر منحنياً ذا قيم امتصاص عالية بشكل قمة غير مألوفة حتى في منتجات نفس المصدر الإنتاجي السابقة، وتجعل الكحول غير موافق للمواصفات الدوائية المطلوبة. وبطبيعة الحال أعدت الاختبار أكثر من مرة بعد التحقق من صحة عمل الجهاز ونظافة الأدوات المستخدمة، وكنت أرى نفس النتيجة. ولما كان الكحول يأتي في براميل عدة خاصة بالمادة، فقد أخذت عينات من براميل أخرى عديدة وكنت أرى نفس القمة تقريباً في عينات البراميل المفحوصة.
أخبرت إدارة الشركة التي اتصلت بالمورد، فجاء صاحبه على الفور ليرى ما المشكلة. وبالنسبة إليه فالمادة المرسلة صنعت بنفس الطريقة السابقة، وبنفس الدقة التي قبلنا نتائجها من قبل. وقد رأى طيف الأشعة غير البنفسجية لعينات المادة المرسلة وطيف شحنة سابقة من عنده لا يوجد فيها مشكلة. ولما كانت الشركة تستخدم براميل خاصة بالكحول يتم المحافظة عليها مغلقة قبل وبعد الاستخدام، فقد اقتنع الرجل أن هناك شيئاً ما حصل في شركته أدى إلى تلوث كحوله. وقد عرف بالاستقصاء الدقيق لاستخدام براميل الكحول عنده، أنه تم استخدامها لتعبئة مادة الأسيتون مرة، وأنه رغم تفريغها جيداً قبل استخدامها من جديد، ورغم أن الأسيتون مادة متطايرة أكثر من الكحول فإنه تبقّى آثار منه كانت كافية لإحداث تلوث جعل الكحول ذي امتصاص عال وغير مقبول وخطر على الصحة لو تم استخدامه.
الجدير بالذكر أنه كان قد أجري للكحول الملوث فحوص عديدة ودقيقة أخرى، لا تتضمن امتصاص الأشعة فوق البنفسجية وكانت كلها كمظهر الكحول الخارجي لا توحي بأية مشكلة. وهذا يؤكد أهمية أن تجرى جميع الفحوص المخبرية المطلوبة لأية مادة أولية، دون التهاون في أي فحص منها، قبل استخدامها.
تظهر الحاجة للتحليل الدقيق أيضاً لجميع وجبات المنتجات الدوائية، أثناء وبعد الانتهاء من إنتاجها، وخلال مراحل فترة صلاحيتها المفترضة. والمنتجات الدوائية هي ما يتداولها المرضى وليس المواد الأولية. وأهم ما فيها صحة نسبة المادة الدوائية وإمكانية وصولها إلى المناطق المستهدفة في الجسم. وهناك أشكال عديدة للأخطاء في صنع الأدوية لا تكشفها إلا اختبارات محددة. وللأسف هناك كثير من المصانع الدوائية التي تهمل في فحص بعض الأمور الأساسية التي يجب توفرها في أدويتها لأسباب متعددة، مما قد يجعل الدواء أقل فعالية بكثير مما يلزم.
من ذلك فحص للمضغوطات أو الأقراص Tablets الملبسة Coated وبعض أنواع الكبسولات Capsules يدعى فحص الانحلالية Dissolution. وفي هذا الفحص يقاس مقدار المادة الدوائية الفعالة التي تحررت من المضغوطة أو القرص خلال وقت معين وهي ضمن محلول معين يشبه محلول المعدة أو الأمعاء، بما يتيح التأكد من إمكانية الاستفادة منها طيلة فترة التأثير المفترضة للدواء.
وفي مرة من المرات قمت بالاتفاق مع إدارة الشركة التي كنت أعمل بها بإجراء اختبار الانحلالية لأحد أدويتها الذي لم يكن هناك من يجريه له فعلياً طيلة سنوات، وتبين أن انحلالية المادة الفعالة أقل بكثير مما يجب مع أن نسبتها في المضغوطات هي 100%. مما يعني أن هذه المادة تدخل وتخرج دون تأثير كاف على المريض. وطبعاً تم اتخاذ قرار، بناء على هذه النتيجة، بتعديل طريقة صنع المضغوطات لتصبح انحلاليتها مناسبة.
د. ممدوح النيربيه