صناعات غذائية 5
كيف كشفت المؤامرة؟
يعود جزء مهم من الفضل في كشف ما دعي مؤامرة السكر الثانية إلى روبرت لستيغ Robert Lustig الباحث في الغدد الصم عند الأطفال Paediatric Endocrinologist في جامعة كاليفورنيا والمتخصص في معالجة البدانة عند الطفولة Childhood Obesity.
في عام 2009، أعطى لستيغ محاضرة من 90 دقيقة بعنوان: “الحقيقة المرة The Bitter Truth”. وقد شوهدت هذه المحاضرة إلى الآن أكثر من 6 ملايين مشاهدة على “يوتيوب YouTube”. ويدلل لستيغ في هذه المحاضرة بشكل قوي أن الفروكتوز Fructose، وهو شكل من السكريات كثير الاستعمال في وجباتنا الغذائية الحديثة هو “سم Poison” مسؤول عن وباء البدانة Obesity Epidemic المنتشر في أمريكا والعالم.
وقبل حوالي عام من نشر الفيديو، أعطى لستيغ محاضرة مشابهة في مؤتمر للكيميائيين الحيويين Coference of Biochemists في أديليد Adelaide بأستراليا. وفي ختام المحاضرة اقترب عالم ضمن الحضور من لستيغ، وقال له: “بالتأكيد، أنت قرأت عن يدكين “Yudkin. وقد هز لستيغ وقتها رأسه بالنفي. فقال العالم:”جون يدكين هو أستاذ تغذية Professor of Nutrition بريطاني، دق جرس الإنذار عن السكر عام 1972 في كتاب بعنوان: “نقي، وأبيض، ومميت”.
بدأ لستيغ بعد عودته إلى كاليفورنيا يتساءل عن يدكين وأعماله العلمية. وقد وجد أن الكتاب المذكور غير موجود إطلاقا في مخازن الكتب أو المكتبات ولا في الإنترنت. لكنه استطاع الحصول على نسخة بتسجيل طلب لها في مكتبة جامعته. وذهل لدى قراءته في مقدمة الكتاب قول يدكين: “لو كشف جزء صغير فقط مما نعرفه عن تأثيرات السكر Sugar Effects، مقارنة بأية مادة أخرى تضاف للأغذية Food Additive، لمنع استخدام هذه المادة على الفور”.
شعر لستيغ بكثير من الجميل لهذا الباحث الذي اكتشف حقيقة السكر جيداً، قبله بأكثر من 35 عاماً.
كما شعر بأن شيئاً غير طبيعي عاقب ذلك الباحث سلباً وأخفى أعماله طيلة هذه الفترة، وأراد أن يعرف ما هو.
وأخيراً شعر وكأن العالم الأسترالي الذي حدثه عن يدكين كان يحذره بود صديق من نفس مصيره.
ما الذي حصل؟
في الوقت الذي كان فيه جون يدكين يكتب كتابه، بدأ يبرز على السطح بتغطية وتشجيع وتمويل من شركات صناعة السكر باحثو تغذية ملؤوا المشهد مقالات وأبحاثاً تتحدث عن دور الدهون الضار بالصحة وعن دور لا يذكر للسكريات في هذا المجال، وامتلأت الصفحات الطبية أو الخاصة بالتغذية بنصائح غذائية توصي باجتناب الدهون وتناول السكريات والنشويات بدلاً منها، مما جعل أبحاث يدكين وكتابه معزولة وشاذة في خضم ما ينشر في المجلات العلمية. وشيئاً فشيئاً بدأت الحرب الخفية على يدكين تقضي على سمعته وتخفيه من الساحة العلمية. ولم يستطع قط بعد ذلك استعادة هذه السمعة فتوفي عام 1995 مهملاً ومنسياً إلى حد كبير.
لكن المشكلة أو النتيجة لم تقتصر على مصير بائس لعالم مخلص، بل كانت أكبر من ذلك بكثير. فقد كان ما حصل هو متابعة لمؤامرة السكر الأولى لخبراء تغذية جامعة هارفارد، التي تحدثنا عنها من قبل على هذا الموقع:
http://www.knowledge-savoir.com/food-industry-3/
لإخفاء أخطار استهلاك السكر، والترويج لمخاطر الدهون، خصوصاً المشبعة منها، وضرورة تجنبها، واستبدالها بالسكريات والنشويات. وقد حصل نتيجة لإخفاء دور السكر في الأمراض والتركيز على دور الدهون في أمراض القلب Heart Diseases وفي انتشار البدانة Obesity، أن ظهرت قواعد صحية عامة تنادي بالحمية عن الدهون المشبعة Saturated Fats والإقلال من الدهون بشكل عام، قللت من شأن أبحاث يدكين وأمثاله القليلين الذين كانوا يسبحون ضد تيار الباطل.
وفي عام 1980، بعد استشارات مديدة مع أكثر علماء التغذية شهرة في الولايات المتحدة، أصدرت الحكومة الأمريكية أول قواعد للتغذية Dietary Guidelines في البلاد. وقد شكلت هذه القواعد أساساً لتغذية الملايين من الأمريكيين وغيرهم. وأصبح الأطباء يوصون مرضاهم باتباعها، وأخذت شركات المواد الغذائية تطور منتجات تتوافق معها.
وامتد تأثير تلك القواعد خارج الولايات المتحدة. ففي عام 1983 أصدرت الحكومة البريطانية نصائح للبريطانيين تتوافق بصورة كبيرة مع النموذج الأمريكي. وتبع ذلك الكثير من الدول والأشخاص عبر العالم.
وكانت أهم توصيات التغذية للحكومتين هي الامتناع عن تناول الدهون المشبعة والكولسترول Cholesterol، وذلك لأول مرة ينصح فيها عامة الناس بالامتناع عن أحد المصادر الغذائية. وقد أطاع المستهلكون هذه النصائح، وأخذوا يستبدلون شرائح اللحم Steak والسجق أو النقانق Sausages بالمعكرونة Pasta والرز Rice، والزبدة Butter بالمرغرين (السمن الصناعي النباتي) Margarine والزيوت النباتية Vegetable Oils، والبيض Eggs بالميوسلي Muesli، والحليب العادي بالحليب قليل الدسم Low-Fat-Milk أو عصير البرتقال Orange Juice.
ولكن بدأ يظهر مع الوقت أنه بدلاً من أن يصبح الناس أكثر صحة نتيجة اتباع تلك القواعد الصحية أصبحوا أكثر بدانة وإصابة بالأمراض. فالإحصائيات في الولايات المتحدة تبين أن نسبة البدانة كانت 12% في الخمسينات من القرن الماضي، وأصبحت 15% عام 1980، وبدل أن تنخفض نتيجة قواعد التغذية الجديدة أصبحت 35% عام 2000. أما الإحصائيات في بريطانيا فتدل أن نسبة البدانة التي كانت ثابتة تقريباً بحدود 6% حتى عام 1985 تضاعفت ثلاث مرات بين عامي 1980 و 2000. واليوم يعتبر ثلثا البريطانيين إما بدينين Obese أو زائدي الوزن Overweight، وبهذا أصبح البريطانيون الأكثر بدانة في الاتحاد الأوربي. وقد ارتفعت نسبة الإصابة بداء السكري من النمط الثاني Type 2 Diabetes، المرتبط بشكل وثيق بالبدانة، في كل من البلدين في نفس الفترة.
وبشكل مختصر يمكن وصف ما حدث بأنه، في أحسن الأحوال، لم تصل القواعد الغذائية الرسمية إلى تحقيق أهدافها. أما في أسوئها، فقد قادت إلى كارثة صحية Health Catastrophe خلال عدة عقود من الزمن.
تصحيح المسار
استمرت التعليمات الرسمية باتباع قواعد صحية تعتمد على تجنب الدهون المشبعة والكولسترول حتى وقت قريب دون أن يتأثر الكادر الذي يضع هذه القواعد بالأبحاث المتزايدة التي تشير إلى الأثر السلبي للسكر على الصحة العامة، كما يبدو حماية لنفسه من مسؤولية أخطائه. وعلى هذا الأساس صدرت قواعد التغذية الجديدة في الولايات المتحدة التي تجدد كل 5 سنوات عام 2015 دون حتى الإشارة إلى التحذيرات الجديدة المتعلقة بأخطار الاستخدام الزائد للسكريات.
لكن هذا أثار فضيحة في الكونغرس الأمريكي، الذي وبخ المسؤولين عن وضع قواعد التغذية، وطالبهم بتعديلها استناداً إلى معطيات علمية مؤكدة وبعيداً عن المزاج الشخصي أو المواقف الاقتصادية والسياسية.
أما عن لستيغ وغيره من الباحثين عن الحقيقة، فقد استمروا في معركتهم لإحقاق الحقيقة وإزالة الكابوس الذي خيم على أوساط أبحاث التغذية طيلة النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن. وتتلاحق الأبحاث الآن التي تؤكد ما توصل إليه يدكين قبل 45 عاماً.
وهناك حالياً في النسخة الأخيرة لقواعد التغذية ملحق متمم عن أخطار استهلاك السكر على الصحة العامة. أما في بريطانيا، فقد فرض وزير المالية جورج أوسبورن George Osborne ضريبة جديدة على المشروبات السكرية Sugary Drinks، وتتجه الأمور نحو اعتبار السكر العدو الأول للصحة العامة.
ولعل خفايا الصراع لصالح شركات السكر وخبراء التغذية المرتبطين بها تحتاج تفصيلاً أكبر، سنحاول أن نقدمه في مقال ثالث إن شاء الله.
د. ممدوح النيربيه