قراءات وعبر من الصناعة الهندية 1
مقدمة لا بد منها: بناء هرمي من الداخل
في هذه السلسلة من المقالات عن الصناعات الهندية وتطورها وطموحاتها المستقبلية، سأقدم معلومات مفصلة عن الصناعة الهندية بطريقة يغلب عليها التركيز على الإيجابيات وتقليل المساحة المعطاة للسلبيات، لافتاً أنظارنا نحن العرب إلى أننا كنا نعتبر الهند منذ عقود قليلة دولة أكثر تخلفاً من أكثر الدول العربية، وهي تظهر الآن كمارد خارج من القمقم ولديه من عناصر القوة ومؤهلات النمو ما قد يكون الحلم به على بعضنا صعباً.
كنا سابقاً نحاول حث أنفسنا على النهوض بذكر تاريخ أو حاضر دول متقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والدول الاسكندنافية. كما كنا نعتبر أن مشكلة العرب مع التطور والتقدم العلمي هي مشكلة العالم الثالث كله. إلا أن ما نراه من تطور في بعض دول العالم الثالث مثل الهند والصين والبرازيل وماليزيا وقبلها في كوريا الجنوبية وتايوان وهونكونغ وسنغافورة، مع ما يظهر شبه غياب للتقدم المعتمد على البحث والاكتشاف في الدول العربية، يجبرنا على النظر إلى ما لدينا من خصوصيات تعيقنا عن السير في الطريق نفسه رغم وجود ثروات طبيعية ضخمة في كثير من الدول العربية.
نشير إلى أننا نتكلم هنا عن النهضة الاقتصادية وآفاق البحث العلمي وليس عن القضايا السياسية والاجتماعية التي قد لا يجد بعضها النجاح الذي تأمله الهند. ومن أهم هذه القضايا التي تعتبر معيقات لتطور الهند ولطخ في سمعتها، قضايا مشكلة كشمير ورغبة شعبها في الاستقلال عن الهند، ومشكلة التمرد الشيوعي الماوي المسلح الذي ينتشر في مناطق الهند الفقيرة، ومشكلة التفريق بين طبقات الشعب الأربع عند الهندوس، ومشكلة التعصب الديني وهدم مسجد بابري وملحقاته، ومشكلتا الأمية والفقر اللتان لا تزالان تنتشران بنسب عالية لا أدل عليها مثل الترتيب العالمي 142 للهند في أحدث إحصائية للناتج المحلي الإجمالي للفرد Gross Domestic Product (GDP) per Capitaبعد جميع الدول العربية باستثناء موريتانيا وجزر القمر والصومال. لكن المنطق يقول أن معظم هذه الأمور إلى تراجع بأسرع مما يظن المرء لأول وهلة، بسبب نسبة النمو الاقتصادي العالية للهند وهي ثاني بلدان العالم نجاحاً في هذا المجال بعد الصين، وبسبب البنيان الاقتصادي المتين الذي بني بشكل هرمي بدءً من قاعدة إنتاجية وعلمية وتكنولوجية واسعة من داخل الهند. لا عجب بعد ذلك أن يجد الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما في الهند مؤخراً البلد الذي يستطيع أن يقف مع الولايات المتحدة في وجه المارد الصيني الذي أصبح يخيف جميع من حوله إضافة لها.
من الضروري بمكان أن نعي أننا لا نستطيع أن نستمر طويلاً في تخطي مشاكلنا الحقيقية التي تعوقنا عن السير في طريق النمو والتطور الصحيح ومحاولة استدراك ما فات واللحاق بركب هؤلاء الذين سبقونا والذين يزداد عددهم باستمرار . لا شك أن هناك أعمالاً تنجز في بلادنا هنا وهناك، وخصوصاً في البنى التحتية ومجال التربية والتعليم والصناعات التحويلية ، لكننا بالتأكيد في حالة أشبه بالشلل كلما تعلق الأمر بنهوض أو بتطور حقيقي للحاق بالآخرين بصورة متكاملة ومدروسة أو بصناعة حقيقية نبنيها بأنفسنا وتكون قواعدها راسخة لا تهتز لأي سبب. نحن نفتقر إلى الإرادة المشتركة الواعية والراغبة في تحقيق متطلبات النهوض الشامل واستخدام كل طاقات البلاد وأبنائها في هذا المجال بعيداً عن أوجه الفساد المنتشرة في جميع المستويات وعن تكبيل العناصر الكفؤة بإدارات قاصرة وسياسات لا تشجع غالباً على البحث والتطور إلا بأحلى الكلام ، كما نفتقر إلى البيئة الصحية للعمل العلمي والصناعي الخلاق بجميع نواحيها المادية والفنية والنفسية، التي يعطى فيها كل ذي حق حقه ويتاح فيها للقادر على العطاء أن يمارس عمله المفيد بحرية . وهذان أمران لابد منهما لأي بحث أو تطوير جدي ، وبدونهما لن يتقدم مستثمر كبير واحد في مجال البحث والتطوير ، ولن يعود عالم أو خبير مهاجر واحد ليفيد بلده بعلمه أو خبرته بإرادته.
إنها دعوة لاتباع هذا الطريق أرجو أن لا تضيع هباء بالكامل.
د. ممدوح النيربيه
تاريخ النشر الأصلي: 24-06-2016
إعادة النشر: 28-12-2016