قصص إسلامية 22
(قصة دمشقية قديمة كتبها سِبْط الشيخ الحافظ أبي الحسن الكردي الدمشقي)
كانت جدتي تعد طعام الغداء، وكان ضجيج الأولاد يملأ الحارة بعد انصرافهم من المدرسة، فبعضهم يغني، وبعضهم يركض، والآخرون تجمعوا عند دكان (أبي لطفي وأبي حاتم وأبي ابراهيم) ليشتروا ما تبرق عيون الأطفال لرؤيته، وخصوصاً بزر دوار الشمس، وصدى ضحكاتهم البريئة يتردد في سماء الحي.
كان جدي الشيخ أبو الحسن الكردي رحمه الله قد دخل لتوّه، وقبل أن يخلع جبّته سمع صوت ابنه الصغير بدر يبكي أسفل البناء بشدة.
أسرع جدي إلى باب البناء ليرى ولده الصغير:
- ما الأمر؟ لماذا تبكي؟
- هذا الولد ضربني!
وأشار خالي إلى طفل واقف عند مدخل البناء وقد علته نشوة الانتصار، ولا يزال لديه المزيد من مشاعر التحدي.
فصاح جدي بالولد بصوته الحازم :
- لماذا ضربته؟ أليس حراماً عليك؟ أليس رفيقك؟ اذهب من هنا إلى بيتكم. بسرعة!
هرب الولد وهو يحمل غير قليل من الخوف بين جنبيه، شاكراً لله أن الشيخ لم يضربه.
أمسك جدي بيد صغيره وصعدا البيت، وما أن هدأ البدر الجميل حتى بادره جدي مستفهماً:
- ما القصة؟ ولماذا ضربك الولد؟
فقصَّ خالي قصّة من قصص الأطفال البريئة لا تخطر على بال.
سأل جدي: من هذا الولد؟ ما اسمه؟
- إنه فلان.
- ماذا يعمل أبوه؟
- أبوه ميت.
فتح جدي عينيه وقد صدمته الكلمة، كمن تلقى خبراً بوفاة عزيز.
- ماذا؟ يعني الولد يتيم!
- نعم.
- أين يسكن؟
- لا أعرف.
ترك جدي صغيره، وأخذ بخطوات عجوز ثمانيني يسابق خطوات الشباب، بحثاً عن الطفل. ,كان معظم الأولاد قد وصلوا بيوتهم.
بحث يمنة ويسرة دون أن يجد الطفل، فعاد إلى بيته مهموماً كئيباً. ولم يكد يدخل من باب الدار حتى لاحت أمامه الآية الكريمة: “فأما اليتيم فلا تقهر”
كيف قهرت هذا اليتيم؟ كيف صرخت في وجهه وطردته دون أن أستوضح منه؟
وداخل جدي رحمه الله غمٌ ما بعده غم. وبات ليله ينتظر الصباح بصبر العطاش إلى قطر الغيث.
وما إن قارب دخول الأولاد إلى المدرسة حتى نزل – رحمه الله – قرب المدرسة التي تفصلها أمتار قليلة عن بيته لعله يحظى بهذا الولد، ولكنه لم يجده. ثم عاود الكرّة وقت الانصراف بيد أن أثراً للطفل لم يظهر.
بقي الشيخ الجليل الفقيه الحافظ يقف في الطريق ثلاثة أيام صباحاً وظهراً، وقد ناهز الثمانين، ينتظر الطفل ابن العشر سنوات، لا يهدأ له بال يرافقه خيال الطفل في الليل، وفي الطريق، وفي المسجد.
وأخيراً في اليوم الثالث عند الانصراف، ظهر الولد! نعم إنه هو. فتهلل وجه الشيخ واستبشر وانطلق نحو الطفل.
نظر الطفل بوجوم وعقله الصغير لا يسعفه بتخمين ما يضمر له الشيخ الكبير !سلم عليه الشيخ وربت على كتفه وبادره بابتسامته الآسرة:
- أهلاً حبيبي، كيف حالك؟
تلعثمت شفاه الولد بالحمد لله، وعيونه يظهر عليها السؤال ما الذي سيحصل؟
- تعال معي حبيبي.
أمسك الشيخ بيد الصغير وصعد به إلى البيت، وأدخله غرفة الضيوف، وألان له الكلام وطيب له العبارات. وقدم له طعام الغداء وجلس يلقمه بيده.
وبعد أن شبع الطفل، أخرج الشيخ كيساً فيه ما لذ وطاب مما يحبه الصغار، فقدمه للطفل. ثم أتبع الشيخ ذلك بتقديم مبلغ من المال للطفل، وبادر قائلاً :
- لا تزعل مني حبيبي. أنا لم أقصد الصراخ عليك. كان قصدي يا بني أن تكونوا رفاقاً في المدرسة وأن
تحبوا بعضكم بعضاً وأن لا تتشاجروا وتديروا بالكم على بعض. ونوّع الشيخ في عبارات الاعتذار الراقية التي تتناسب ورقيّ روحه وقلبه النقيّ.
اطمأن الشيخ إلى أن الولد قد امتلأ سروراً، وبدا البشر على محيَّاه، وطابت نفسه بما نال من إكرام.
بل وطار عقله بما رأته عيناه من نقود، ملأت كفه الطري، وطعام يشتهيه الأولاد ملأ الكيس الذي تمسكه اليد الأخرى، فقام يودعه والشعور بإرضاء ربه قد غمر قلبه.
وكانت هذه القصة بعض السر في انتشار إجازة الشيخ في القرآن الكريم انتشاراً يفوق الوصف، وتزاحم الطلاب والطالبات على باب بيته.
“منقولة بتصرف”