قصة أطفال الكهف في تايلاند 5
مع صدور بيان البحرية التايلاندية مساء الثلاثاء 10-07-2018م عن اكتمال إنقاذ أطفال فريق كرة القدم ومدربهم، إضافة إلى طبيب رافقهم في الفترة الأخيرة، وثلاثة من غواصي البحرية التايلاندية كانوا برفقة الأطفال الأربعة والمدرب المتبقين للمرحلة الثالثة والأخيرة من عملية الإنقاذ، ظهرت تايلاند بأكملها في احتفال وبهجة وانبهار بما تحقق، وكان يبدو قبل أيام مهمة مستحيلة.
وكان يرافق التايلانديين في بهجتهم، الكثيرون من المتابعين في أنحاء العالم المختلفة، ولكن على الخصوص أولئك الذين قدِموا من دول عدة للمشاركة في عملية الإنقاذ، وكان لبعضهم دور محوري فيها، بحيث بدت عملية الإنقاذ ، وباعتراف السلطات التايلاندية، عملية إنسانية دولية من الطراز الأول تمت تحت قيادتها وإشرافها.
مرت المأساة الرهيبة بمراحل مختلفة اكتنفت كل منها صعوباتها ومشاكلها، بحيث يبدو من الملائم التحدث عن هذه المراحل بشكل منفصل، وكذلك عن النواحي والعوامل التي تدخلت في عملية الإنقاذ أو استغلتها لفوائد شخصية.
وكان مما يشوش النظر فيما يحدث الأخبار الصحفية المتضاربة والكاذبة أحياناً بسبب تعجل الصحفيين في الوصول إلى سبق صحفي بالتحدث عن شيء يتوقعونه لم يحدث بعد، أو خلاف الواقع. وكنا نعاني بسبب ذلك في محاولة نقل صورة دقيقة لما يحدث في المقالات السابقة عن أطفال الكهف.
كانت أولى مراحل المأساة بالطبع مرحلة فقدان الفريق والبحث عنه والتي استمرت تسعة أيام، وتخللتها صعوبات جمة. ومن يرى تفاصيل هذه المرحلة أن النجاح الذي تحقق في هذه العملية المستحيلة المظهر يفوق الخيال.
بدأت المأساة يوم 23 حزيران/ يونيو 2018م، عندما اختفى أعضاء من فريق لكرة قدم من الأطفال يدعى فريق “الخنازير البرية”Wild Boars ، يتألف من 12 لاعباً تتراوح أعمارهم بين 11 و 17 عاماً، ومدربهم المساعد إيكابول شانثاوونغ Ekapol Chanthawong البالغ من العمر 25 عاماً.
وكان أعضاء الفريق قد دخلوا كهف ثام لوانغ نانغ نون Tham Luang Nang Non Cave الذي يقع قرب مدينة مائي ساي Mae Sai في ولاية شيانغ راي Chiang Rai شمال تايلاند، للقيام بنزهة يحتفلون خلالها بعيد ميلاد أكبر الأطفال السابع عشر، بعد إجراء مباراة كرة قدم في مكان قريب من الكهف، ولكنهم فوجئوا بعد قليل وهم في الداخل بمياه أمطار غزيرة موسمية تدخل الكهف بعد هطولها بكميات كبيرة، وتملأ مناطق عديدة من ممرات الكهف الذي يبلغ عمقه عدة كيلومترات، مما أغلق طريق الخروج بشكل كامل.
وفي الساعة السابعة مساء فحص المدرب الرئيس لفريق “الخنازير البرية” نوبارات خانثافونغ Nopparat Khanthavong هاتفه الجوال ليجد حوالي 20 إشعاراً عن مكالمات من آباء أعضاء الفريق القلقين بسبب تأخر أولادهم عن العودة إلى بيوتهم. فبدأ على الفور محاولة الاتصال بأعضاء الفريق ومدربهم دون أن يتلقى استجابة إلا من أحد الأطفال الذي كان مع الفريق، وعاد إلى بيته، بعد أن علم بنية الفريق استكشاف الكهف.
أسرع المدرب الرئيس إلى الكهف ليجد قرب المدخل دراجات وحقائب تخص أعضاء الفريق، والماء يخرج من الممر الموحل داخل الكهف. ولم يسعه عندئذ إلا الاتصال بالسلطات لتدارك الأمر.
بعد التأكد من أن الأطفال فُقدوا داخل الكهف الممتلئ بالمياه الموحلة، بدا واضحاً أن عملية البحث ليست مؤكدة النتائج، إذ لا يعرف إن كان سيمكن اكتشاف مكان أو أماكن وجودهم، كما لا يعرف إن كانوا مازالوا أحياء محتجزين مكان وجودهم داخل الكهف. ومن جهة أخرى بدا جلياً أن عملية الإنقاذ لا يمكن أن يقوم بها إلا غواصون مدربون.
وكان من حسن حظ تايلاند أن أحد الخبراء البريطانيين في استكشاف الكهوف ويدعى فيرنون أنسوورث Vernon Unsworth، يعيش في الولاية التي يقع فيها الكهف. وكان أنسوورث قد قام باستكشاف كثيف لكهف ثام لوانغ في وقت سابق وعلى معرفة قوية بتفرعاته واختلاف مستوياته وغرفه وممراته الضيقة. وقد جاء إلى الكهف في اليوم التالي لاختفاء الأطفال. وبعد تأكده من الأطفال موجودون داخل الكهف أقنع السلطات، التي كانت قد أدركت صعوبة الوضع في غياب غواصين مدربين على مهمات الكهوف في تايلاند، باستدعاء خبراء إنقاذ أجانب، وبشكل خاص الاستعابة بفريق من منظمة بريطانية للإنقاذ في الكهوف مركزها ديربيشاير تدعى Derbyshire Cave Rescue Organisation.
وقد اتصل على الفور بثلاثة خبراء غوص يعرفهم فيه هم ريتشارد ستانتون Richard Stanton وجون فولانثن John Volanthen وروبرت هاربر Robert Harber، فحضروا سريعاً والتحقوا بالموقع خلال اليوم التالي ومعهم أجهزة راديو خاصة للعمل في الكهوف تدعى Heyphone LF Radios استعاروها من المنظمة البريطانية.
وكانت قد بدأت على الفور جهود إغاثة محلية دعمت تدريجياً بفرق إنقاذ من غواصي القوى البحرية التايلاندية تبعها فرق إنقاذ من البحرية الأمريكية ومن أستراليا والصين وبلدان أخرى إلى جانب الفريق البريطاني الذي زاد عدده إلى سبعة في وقت لاحق، للبحث عنهم على أمل أن يكونوا على قيد الحياة في مكان غير مغمور من الكهف المؤلف من غرف متعددة متتالية بعضها واسع يفصلها ممرات ضيقة، ويمتد على مسافة عدة كيلومترات على مستويات مختلفة. وزاد من تعقيد المهمة أن الكهف في الداخل له تفرعات لا يعرف في أي منها اتجه الفريق في رحلته الاستكشافية ثم حوصر بالماء. كما هطلت أمطار غزيرة في أيام تلت فقدان الفريق فرفعت مستوى المياه في الكهف أكثر فأكثر.
وكان طول الكهف وضيقه في كثير من الأماكن، وكثرة الماء في الكهف يجعل مرور الغواصين المزودين بأسطوانات أكسجين في الممرات الضيقة صعباً حتى على المدربين منهم. وزاد من صعوبة المهمة الظلام الدامس والماء الموحل داخل الكهف.
حاول الغواصون بشكل متكرر الوصول إلى عمق الكهف، لكن ارتفاع مستوى الماء الذي ملأ بعض مناطق الكهف والتيارات المائية أجبرهم على الانسحاب ابتغاء السلامة أكثر من مرة. ومع بلوغ اليوم السابع من اختفاء الأطفال ثم اليوم الثامن، ومع انخفاض مستويات الماء نسبياً بسبب الضخ المتواصل إلى خارج الكهف، حقق الغواصون تقدماً متتالياً على مراحل، بالاستعانة بأسطوانات أكسجين وحبال، حتى استطاع الغواصان البريطانيان ستانتون وفولانثن بإدارة من هاربر أخيراً الوصول إلى الأطفال ومدربهم في الساعة العاشرة من مساء اليوم التاسع للمأساة (02-07-2018).
كان الأمر يبدو مجرد صدفة، فقد كان فولانثن يضع علامات طريق إرشادية أثناء غوصه باتجاه الداخل عندما انتهى طريق الغوص الذي يسير فيه، فسبح باتجاه السطح ليجد الفريق أمامه.
وقد نشرت البحرية التايلاندية تسجيلاً لفيديو اجتماع الغواصين بأفراد الفريق الذين كانوا في منتهى السعادة والأمل، لكنهم لم يكونوا يدركون صعوبة الإنقاذ ولا الوقت الذي أمضوه في الكهف، فقد سأل أحدهم أحد الغواصين عن اليوم الذي أصبحوا فيه.
كان أطفال الفريق ومدربهم يعتلون صخرة في غرفة كبيرة من الكهف تبعد حوالي 3.2 كيلومتر (وفي تقدير آخر 4 كيلومتر) عن فتحة الكهف، وحوالي 400 م من غرفة بتايا بيتش Pattaya Beach، باسم الموقع الموجود فوقها في الجبل الذي يقع فيه الكهف، والتي كان المنقذون يتوقعون أن يجدوا الأطفال فيها. وكان الأطفال بصحة جيدة وإن كان بدأ ينتابهم الوهن مع الجوع وتناقص الأكسجين في جو غرفتهم المغلقة بالماء. وتنفست تايلاند بعد العلم بسلامتهم الصعداء، وعم فرح مليء بالحذر والرجاء بإمكانية إنقاذ الأطفال.
بدأت للتو بعد ذلك مشكلة الإنقاذ التي لا تبدو سهلة أياً كانت الطريقة المتبعة لإخراجهم. وإضافة لذلك كان لا بد من تزويدهم بمختلف الاحتياجات الغذائية والطبية وغيرها، وخصوصاً الأكسجين بانتظار إخراجهم من الكهف.
كانت السلطات قد بدأت عمليات سحب للماء من الكهف لتسهيل عمليات الاستكشاف، ومن ثم الإنقاذ إن وجد الأطفال ومدربهم أحياء. وقد ساعد ذلك كثيراً في الوصول إلى المفقودين. لكن دخول موسم الأمطار الموسمية يجعل احتمال عودة المياه إلى الكهف قائماً، ومعه استحالة إنقاذ الأطفال الذين لا يعرف كثير منهم السباحة أو الغطس.
اقرأ المقال التالي: قصة الخيارات الصعبة لعملية الإنقاذ
بوابة المعرفة